بوبي فيلان وفلسطين- غلاستونبري، الإبادة الجماعية وقمع حرية التعبير.

المؤلف: روبين أندرسون08.27.2025
بوبي فيلان وفلسطين- غلاستونبري، الإبادة الجماعية وقمع حرية التعبير.

في قلب مهرجان غلاستونبري الصاخب، ذلك التجمع الموسيقي الأسطوري الذي تحتضنه أراضي سومرست الإنجليزية سنويًا، سطع نجم مغني الراب المثير للجدل، بوبي فيلان. في يوم السبت الموافق 28 يونيو/ حزيران، اعتلى فيلان المسرح عاري الصدر، مطلقًا صرخة مدوية هزت أرجاء المكان، تردد صداها بحماس بين الجموع الغفيرة: "فلسطين حرة، حرة!".

لم يكتفِ فيلان بهذا، بل أطلق سهام نقده اللاذع صوب المملكة المتحدة والولايات المتحدة، متهمًا إياهما بالتواطؤ في جريمة الإبادة الجماعية. وتضرع إلى السماء، متمنيًا بقلب ملؤه الأمل، أن يشرق يوم تنعم فيه فلسطين بالحرية، وتتحرر من براثن الطغيان الذي تمارسه الحكومة الإسرائيلية.

ثم، وبتحول مفاجئ في النبرة، انطلق فيلان في هتاف حماسي: "الموت، الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي"، وهي العبارة التي استقبلها الجمهور بحماس منقطع النظير، مرددينها بكل قوة. وكما يقال بالإنجليزية، "Here we go"، انفجرت الأحداث وتصدرت ضجة غلاستونبري نشرات الأخبار.

البيان الرسمي الصادر عن مكتب السفارة الإسرائيلية في المملكة المتحدة، جاء محملاً بكلمات قاسية، واصفًا هتافات فيلان بأنها "خطاب تحريضي مليء بالكراهية"، ومؤكدًا أنها "تطبيع للغة المتطرفة وتمجيد للعنف". ويا للعجب، فمن حكومة تبدو محصنة ضد المفارقات، ذهب البيان إلى حد الادعاء بأن كلمات فيلان تمثل "دعوة" إلى "تطهير عرقي".

هيئة الإذاعة البريطانية (BBC)، التي قامت ببث العرض على الهواء مباشرة، سرعان ما أعربت عن أسفها الشديد، واصفة هتافات فيلان بأنها "غير مقبولة إطلاقًا"، ومؤكدة أنه "لا مكان لها" على موجاتها.

لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، بل فتحت شرطة المملكة المتحدة تحقيقًا جنائيًا في تعليقات فيلان، وكذلك في تعليقات فرقة Kneecap الأيرلندية. كما قامت وزارة الخارجية الأميركية بإلغاء تأشيرة فيلان، مما حرمه من تقديم عروض كان من المقرر إقامتها في الولايات المتحدة لاحقًا هذا العام.

وسط انشغال وسائل الإعلام الغربية المهيمنة بهذه القصة، بالكاد تم التطرق إلى الإبادة الجماعية المستمرة في غزة، تلك المأساة التي أشعلت فتيل هذه اللغة وردود الفعل، بل تم تجاهلها بشكل شبه كامل.

قبل انطلاق المهرجان، كانت صور وسائل التواصل الاجتماعي القادمة من غزة تنقل للعالم أهوالًا لا تصدق، صور كانت صادمة وكارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. أطفال يعانون من بتر الأطراف، أمهات وآباء وإخوة مفجوعون يبكون بحرقة، أو يحملون أوعية فارغة بأجسادهم الهزيلة، على أمل الحصول على لقمة عيش تسد رمقهم.

الفلسطينيون الجائعون، الذين يائسون للحصول على المساعدة، كانوا يُجبرون على عبور ساحات الموت تحت وابل الرصاص، وسط مناظر الدمار الشامل الذي حل بغزة، تلك المدينة التي كانت عامرة بالحياة.

المراحل الأخيرة من التطهير العرقي كانت تُنفذ بجوار "مواقع توزيع المساعدات" التي تسيطر عليها إسرائيل، وبمساعدة شركة "خاصة" أميركية غامضة - أي مليشيا مرتزقة.

الصحفي البريطاني القدير، جوناثان كوك، كشف النقاب عن الخطة الإسرائيلية الشيطانية في غزة. فقد سمحت الخطة للجيش الإسرائيلي بالإشراف على استخدام متعهدين خاصين لتوزيع المساعدات، أو الإيحاء بتوزيعها، من خلال تجميع الفلسطينيين في "مراكز" تقع في أقصى جنوب قطاع غزة، وهي أماكن "لا يمكنها بأي حال استيعاب الجميع". تلك المراكز لم تكن تحتوي إلا على "عُشر كمية المساعدات المطلوبة".

ولم تكن هناك أي ضمانات على الإطلاق بأن إسرائيل لن تقصف تلك المراكز الإنسانية أو تطلق النار على الغزيين الجائعين الذين يُجبرون على التوجه إليها. واعتبارًا من 9 مايو/ أيار 2025، كانت 15 وكالة تابعة للأمم المتحدة قد رفضت خطة إسرائيل، ووصفت المساعدات بأنها "طُعم".

تم تمويل المخطط الجديد من قبل إسرائيل، عبر متعهدين أميركيين يتظاهرون بأنهم منظمة غير ربحية تُدعى "مؤسسة غزة الإنسانية" (GHF).

بعد بدء هذا النموذج "لتوزيع المساعدات"، أصبح الفلسطينيون أهدافًا سهلة لجنود الجيش الإسرائيلي، ووصفتهم منصة Drop Site News بأنهم يُقتلون في "حقول قتل مفتوحة".

لم تتردد صحيفة هآرتس في نشر مقال اتهم إسرائيل بتحويل مراكز المساعدات التابعة لـ GHF إلى "مواقع للمذابح"، مؤكدة أنها "تعمل بعكس المبادئ الإنسانية التي تقرها الأمم المتحدة وكل منظمة تحترم حقوق الإنسان".

صحيفة CounterPunch وصفت هذه المواقع لاحقًا بأنها "فرق إعدام، لا مواقع مساعدات"، ووثّق مرصد Euro-Med قيام إسرائيل باستهداف الفلسطينيين عند اقترابهم من هذه المناطق، معتبرًا GHF شريكة في "آلة التجويع".

تناول الإعلام الأميركي السائد كان أقل حدة بكثير. فقد وصف تقرير مطوّل في صحيفة نيويورك تايمز حول GHF بأنها "مثيرة للجدل"، وقال في مقدمته إنها "طُورت من قبل إسرائيليين كطريقة لتقويض حماس".

التقرير نقل عن مصدر قوله بسخرية لاذعة: "أي طعام يدخل غزة اليوم هو أكثر مما دخلها بالأمس". أما تغطيات الصحافة الأميركية الأخرى من جنوب غزة فقد قللت من مسؤولية إسرائيل أو أعفت الجيش الإسرائيلي بالكامل.

في 2 يونيو/ حزيران، ذكرت وكالة AP أن شهودًا رأوا القوات الإسرائيلية تطلق النار "نحو" حشود عند موقع للمساعدات، وغطّت المجزرة بقولها إن "الجيش الإسرائيلي نفى أن تكون قواته أطلقت النار على المدنيين قرب أو داخل الموقع في مدينة رفح جنوبًا".

عنوان لاحق في صحيفة التايمز جاء بصيغة المبني للمجهول واستخدم تلاعبًا لغويًا ماكرًا لإخفاء ما حدث خلال "مجزرة الطحين" الأولى في مارس/ آذار 2024، حيث كتبت: "مساعدات قاتلة تصل غزة"، وقالت إن الجيش الإسرائيلي أطلق النار "بالقرب" من مواقع توزيع الطعام.

على النقيض من صحيفة التايمز، لم تلجأ صحيفة هآرتس إلى التخفيف من هول الحقيقة، ونشرت تقريرًا بعنوان: "إنه حقل قتل: جنود الجيش الإسرائيلي أُمروا بإطلاق النار عمدًا على غزّيين غير مسلحين ينتظرون مساعدات إنسانية".

أحد الجنود أكد أن طالبي المساعدات "يُعاملون كقوة معادية"، وأضاف أن الجيش يستخدم "نيرانًا حية" بكل أنواعها، من "الرشاشات الثقيلة، وقاذفات القنابل، والهاونات"، دون "أي حالة من إطلاق النار المضاد. لا يوجد عدو، لا توجد أسلحة". ومرة أخرى، ثبت أن الادعاء باستهداف حماس لم يكن سوى دعاية رخيصة لتغطية المرحلة الأكثر دموية من إبادة استمرت عشرين شهرًا.

منظمة هيومن رايتس ووتش نصحت المجتمع الدولي بإرسال "قافلة دولية" لوقف المجاعة في غزة، وذكّر مركز الحقوق الدستورية بأن GHF قد تكون "مسؤولة قانونيًا عن المساعدة في جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين".

ومع ذلك، نادرًا ما يشير الإعلام الغربي إلى أن المجتمع الدولي يجب أن يوقف هذه المذبحة، أو أنه يملك القدرة على كبح جماح إسرائيل إن أراد.

في واقع الأمر، كانت كلمات مغني الراب عاري الصدر مجرد رد فعل طبيعي على إبادة جماعية وحشية مستمرة، تُرتكب دون حسيب أو رقيب، وتُسهلها وسائل الإعلام التقليدية، ويتم إسكات كل من يجرؤ على انتقادها بتهديدات "معاداة السامية".

ورغم محاولات تجريم وقمع الرأي السياسي، فإن المعارضة مستمرة في التوسع والانتشار، حتى وصلت إلى الفضاءات الثقافية، وتجسدت في عروض الموسيقى.

مع تصاعد وتيرة وحشية الجيش الإسرائيلي، أصبح القتل دون محاسبة مصدرَ جرأة للمواطنين الإسرائيليين أنفسهم. ولكي نفهم كلمات بوبي فيلان في سياق أشمل، يجب أن نلقي نظرة فاحصة على ما يردده ويغنيه الإسرائيليون وينشرونه على الإنترنت، بمن فيهم أفراد من الجيش الإسرائيلي يتفاخرون بتدمير القرى الفلسطينية.

أحد المنشورات يظهر أطفالًا إسرائيليين يرددون أغنية تدعو إلى "إبادة كل سكان غزة"، وفي فعالية "يوم القدس" السنوية التي تحتفل بالاحتلال في القدس الشرقية، هتف آلاف الأشخاص: "الموت للعرب"، ثم ترجموا هذه الهتافات إلى أفعال، فاقتحموا المسجد الأقصى وهاجموا منشأة تابعة للأونروا.

الخيار الآن يبدو واضحًا وجليًا: إما مزيد من القمع لحرية التعبير، أو وقف إبادة إسرائيل، التي تسهم بشكل مباشر في تعزيز معاداة السامية الحقيقية حول العالم.

لحسن الحظ، هناك بعض المؤشرات على أن بعض السياسيين البريطانيين بدؤُوا يشعرون بالتعب والإرهاق من دعم الإبادة الجماعية الإسرائيلية.

في مقابلة على قناة BBC، طُلب من الوزير البريطاني ويس ستريتنغ الرد على ادعاءات السفارة الإسرائيلية بأن مهرجان غلاستونبري سمح بـ"تمجيد العنف". فردّ قائلًا بلهجة حازمة: "أقول للسفارة الإسرائيلية: نظّفوا بيتكم أولًا"، ثم أشار إلى أن "مستوطني إسرائيل الإرهابيين" نفّذوا أعمال عنف مروعة.

النائب عن حزب شين فين، كريس هازارد، أدان بشدة قصف إسرائيل مقهى الباقة في غزة، ذلك المكان الذي اعتاد على ارتياده الصحفيون والنشطاء والفنانون، وتساءل بمرارة: "الإعلام الغربي سيواصل تسليط الضوء على Kneecap وبوبي فيلان. ألا تعني حياة صحفيين فلسطينيين شجعان مثل بيان أبو سلطان شيئًا؟!". وعلى الرغم من الهجوم المروع على المقهى الذي أسفر عن مقتل أكثر من 30 شخصًا وإصابة العشرات، ظلت الصفحات الأولى في الإعلام البريطاني مشغولة بإدانة كلمات فيلان، بدلًا من أفعال الجيش الإسرائيلي.

ومع تصويت البرلمان البريطاني قبل أيام على حظر مجموعة Palestine Action، واصفًا إياها كذبًا بأنها "منظمة إرهابية"، صرحت النائبة المستقلة عن كوفنتري ساوث، زهراء سلطانة، بأن هذا القرار يمثل "تجاوزًا خطيرًا غير مسبوق من الدولة".

وختامًا، أتطلع إلى اليوم الذي تتوقف فيه حكومتا الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عن دعم الإبادة الجماعية، وتدينان الفظائع التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي، بدلًا من قمع وتجريم الخطاب والتضامن والمعارضة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة